حتى لا تتحول التقية إلى انهزام وانكسار
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس المراد من ولوج هذا المبحث إثبات مشروعية التقية في سياق محاججة الخصم المخالف، فذلك مما تم تناوله مرارا منا ومن غيرنا حتى ارتفع القلم عن بيان أفحم. وليس المراد تأسيس رأي جديد أو منهج خاص كما قد يظن بعض الذين قد يلتبس عليهم الأمر. وإنما يراد بهذه المدونة إماطة اللثام عما اشتبه على بعض المؤمنين في حكم التقية في أصلها وموضوعها، سيما في زماننا هذا. وسنوجز القول ونبسطه قدر الاستطاعة حتى لا تكون ملالة أو نقصان فهم. "التقية" قاعدة فقهية ثانوية، حكمها هو الجواز الاستثنائي لا الوجوب الإلزامي كما يظن خطأ بعض الناس، وهي تبيح للمكلف ارتكاب أمر محرم مخالف للحق التكليفي في الشارع اتقاء للضرر المحتمل وقوعه عليه إن امتنع عن المخالفة، أي مخالفة الحق. وقد أجمعت الطائفة المحقة على مشروعيته بالقطع واليقين، كتابا وسنة وإجماعا. أما الكتاب ففيه قوله عز وجل: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى المصير". (آل عمران: 28). وكذلك قوله عز من قائل: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم". (النحل: 106). وأما السنة المطهرة فقد بلغت الروايات بشأن التقية حد الاستفاضة، ومنها ما عن معمر بن خلاد قال: "سألت أبا الحسن عليه السلام (الكاظم) عن القيام للولاة (أي العمل في سلك حكومتهم) فقال: قال أبو جعفر عليه السلام (الباقر): التقية من ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له ". (الكافي ج 2 ص 219). ومنها ما عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام (الصادق) قال: "اتقوا على دينكم واحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له". (الكافي ج 2 ص 218). ومنها ما عن أبي عمرو الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضا في حديث أنه قال: "يا أبا عمرو .. أبى الله إلا أن يعبد سرا، أبى الله عز وجل لنا ولكم في دينه إلا التقية". (المصدر نفسه). ومنها ما عن حريز عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: "ولا تستوي الحسنة والسيئة" قال: "الحسنة التقية والإساءة الإذاعة". (المصدر نفسه). ومنها ما عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحله الله له". (المصدر نفسه) ونكتفي بهذا القدر. وأما الإجماع، أي إجماع علمائنا المتقدمين والمتأخرين، فمعلوم ولا خلاف فيه، وتشهد عليه سيرة المتشرعة. · جائزة وليست واجبة بالأصل: وتفصيلنا في هذا المقام هو في الحكم، ثم نأتي إلى الموضوع، فنقول أن التقية - على القاعدة - ليست واجبة بل جائزة، ولا يقول أحد بوجوبها إلا في موارد تحقق الضرر، وفي هذا نظر أيضا في إطلاقه، وسنأتي على تفصيل ذلك. فقد أفاد الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في المكاسب بتقسيم التقية إلى الأحكام الخمسة، فقال: " الواجب منها: ما كان لدفع الضرر الواجب فعلا، وأمثلته كثيرة والمستحب: ما كان فيه التحرز عن معارض الضرر، بأن يكون تركه مفضيا تدريجا إلى حصول الضرر، كترك المداراة مع العامة وهجرهم في المعاشرة في بلادهم فإنه ينجر غالبا إلى حصول المباينة الموجب لتضرره منهم . والمباح: ما كان التحرز عن الضرر وفعله مساويا في نظر الشارع، كالتقية في إظهار كلمه الكفر - على ما ذكره جمع من الأصحاب - ويدل عليه الخبر الوارد في رجلين أخذا بالكوفة وأمرا بسب أمير المؤمنين عليه السلام والمكروه: ما كان تركها وتحمل الضرر أولى من فعله، كما ذكر ذلك بعضهم في إظهار كلمة الكفر، وأن الأولى تركها ممن يقتدي به الناس إعلاء لكلمة الإسلام. والمراد بالمكروه حينئذ ما يكون ضده أفضل. والمحرم منه: ما كان في الدماء ". (المكاسب ص 320) كما وذكر الشهيد الأول العاملي (قدس سره) في قواعده:" أن المستحب (من التقية) إذا كان لا يخاف ضررا عاجلا، ويتوهم ضررا آجلا، أو ضررا سهلا، أو كان تقية في المستحب، كالترتيب في تسبيح الزهراء (صلوات الله عليها) وترك بعض فصول الأذان. والمكروه: التقية في المستحب حيث لا ضرر عاجلا ولا آجلا، ويخاف منه الالتباس على عوام المذهب. والحرام: التقية حيث يؤمن الضرر عاجلا وآجلا، أو في قتل مسلم. والمباح:. التقية في بعض المباحات التي يرجحها العامة ولا يصل بتركها ضرر "(القواعد والفوائد ج 2 ص 158). فعلى هذا، يتضح أن حكم التقية يكون تارة واجبا، وأخرى مستحبا، وثالثة مباحا، ورابعة مكروها، وخامسة حراما وليس كما يفهمه بعض الناس من أن التقية واجبة على كل حال. بل هي ساقطة إلا إذا قام ما يوجبها من الشرائط الموضوعية، وهي تدور مدار حدوث الضرر ووقوع الشر على النفس أو العرض أو المال أو ما شابه لا محالة، وإلا فلا تقية مطلقا، فلا يجوز للمكلف أن يعمل بالتقية ويخالف الحق أو يكتمه إلا إذا وجد الضرر ماثلا أمامه، أو إذا احتمل أن ترك التقية سيؤدي إلى وقوع هذا الضرر تدريجا كما قرروه. وكلامنا هنا هو في ما عده الشيخ الأعظم (قدس سره) مباحا من أصناف التقية، وذلك عندما يتساوى الإقدام على الضرر مع عدم الإقدام، وفي ما عده أيضا مكروها عندما يكون الامتناع عن التعرض للضرر في سبيل إعلاء كلمة الإسلام حيث جعل الأولوية في عدم الامتناع ونقلها عن غيره من الأصحاب، ونضيف هنا أنه يستفاد من الروايات الواردة أن التقية ليست إلا رخصة استثنائية من الله سبحانه وتعالى لعباده، وليست إلزامية إلا مع شرط توهم دفع الضرر عن النفس أو الجماعة بما لا يكون عكسه أفضل، أو إذا رأى المؤمن أن تركها في ظرف ما قد يؤدي إلى هدم الدين أو ما شابه، وهو ما قام به أئمتنا المعصومون (عليهم الصلاة والسلام) الذين عملوا بالتقية ووصوا أتباعهم - في أزمنتهم - ورغبوهم بها حفاظا على بيضة الإسلام والتشيع الحق. ولا يقال: إن التقية واجبة إلزاما حتى في حال رأى المؤمن نفسه متعرضا للضرر في سبيل الدين لقوله عليه السلام: "التقية من ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له" ؛ لأنه يقال: إنا لو أخذنا هذا المعنى لكانت مع ذا أيضا معارضة بالروايات الأخر الدالة على الرخصة والتخيير، فيبقى الحكم على ما هو من الجواز الاستثنائي لا الوجوب المطلق إذ لم يقل بذلك أحد لا من المتقدمين ولا من المتأخرين. وعند مراجعة الآيتين الكريمتين اللتين صدرنا بهما البحث تتكشف حقيقة أن التقية استثنائية لحفظ النفس اتقاء لوقوع الضرر البالغ، ولا دليل في الآيتين على الوجوب أو الإلزام كما لا يخفى. وإلى ذلك تشير الروايات الشريفة أيضا كما أسلفنا. ولا يمكن - والحال هذه - القول بأن التقية إلزامية استنادا إلى "لا دين لمن لا تقية له" لأن الإطلاق لا يتم عند المقابلة والمعارضة مع الأدلة الأخرى، والتي تكون - إذ ذاك - أكثر توضيحا للمعنى الشرعي. · الضرورة حاكمة: على أنه قد يقال بأن اللجوء إلى التقية في مورد الدفاع عن الدين لا يكون إلا في أقصى حالات الضرورة، أي إذا وصل السيف الرقبة أو ما دون ذلك مما يدخل ضمن هذا الإطار، إذا كان ذلك في سياق المصلحة الإسلامية أو النهوض بأمر التبليغ. ذلك لأن الآية الكريمة تشير إلى الإكراه "إلا من أكره"، والإكراه هنا يوحي بالشدة والقسوة والتيقن من وقوع الضرر البالغ الأكيد، ويتأكد هذا المعنى عند مراجعة أسباب النزول حيث كان التهديد بالقتل وهو أشد ما يقع من الضرر اتفاقا، كما يتأكد إذا لاحظنا أن حكم الاستثناء - أي حكم التقية - قد جاء في الآيتين الكريمتين من مستثنى يعد أكبر الكبائر، وهو الكفر بالله جل وعلا، واتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وبهذه المقايسة يمكن القول بأن ما يستلزم اللجوء إلى هذا الحكم الاستثنائي لا يكون إلا وقوع ضرر بالغ أكيد يبرر الإقدام على هذه الكبيرة الخطيرة. ولكن هذا القول محل تأمل من حيثية ورود الوسعة والعموم في اللجوء إلى التقية حيثما كانت ضرورة وذلك في لسان الروايات، وهو - أي ذلك القول السابق - إذ ذاك محل إشكال، لكنه لا يخلو من قوة في موضوع توقف إعلاء كلمة الإسلام أو تحقيق المصلحة الإسلامية، إذ يجوز تارة ويستحب أخرى ترك المكلف للتقية إن وجد أن في تركها مصلحة للدين حتى وإن كان فيها ضرر شخصي يقع عليه. يدل على الجواز في ترك التقية ما روي من أن رجلين من أهل الكوفة اعتقلا فطالبتهما السلطات الأموية بالبراءة من أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) وإلا قتلتهما، فبرئ أحدهما وأبى الآخر، فأطلق سراح المتبرئ وقتل الممتنع. فبلغ ذلك الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام) فقال: "أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل الجنة". (بحار الأنوار ج 72 ص 436). قال العلامة المجلسي في تعليقه على الرواية آنفة الذكر: "يدل على أن تارك التقية جهلا مأجور، ولا ينافي جواز الترك". (المصدر نفسه). كما يدل على الجواز بل والاستحباب في ترك التقية إن توقفت عليها مصلحة الإسلام ما روي من أن مسيلمة الكذاب (لعنة الله عليه) قد أخذ رجلين من المسلمين وأمرهما بالشهادة له بأنه رسول الله وإلا قتلهما، فأذعن الأول لذلك وشهد فأخلى سبيله ، وأبى الآخر فقتله. فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئا له". (البحار عن غوالي اللئالي ج 72 ص 434). · رخصة يمكن تركها: فالتقية إذن رخصة لمن أخذ بها، ومن تركها يكون معذورا إن كان جاهلا وهو على كل حال مأجور، أما إن توقفت عليها مصلحة الإسلام وإعلاء كلمته والصدع بالحق والقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك مما لا كلام في استحبابه الأكيد، وأعظم دليل عليه ما قام به سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) إذ نهض بوجه الظالمين تاركا للتقية رغم تحقق شرائطها الموضوعية كما لا يخفى حيث كان على شفا القتل والهلاك، وما ذاك إلا لأن المصلحة الإسلامية الكبرى كانت في ترك التقية والتضحية في سبيل الله حفظا للدين، بينما كانت المصلحة في زمان من تلاه من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) في العمل بالتقية حفظا لوجود الأئمة وشيعتهم ولئلا يندثر ذلك الوجود أو ينضمر في ظل الإرهاب والملاحقات الأمنية التي كانت دأب السلطة آنئذ، ما كان يتطلب إخفاء المؤمنين لأنفسهم وما يعتقدون وما يعملون حتى لا يعرف أنهم من شيعة علي عليه السلام. وعلى سبيل المثال لو أن مؤمنا وجد نفسه متعرضا للقتل أو الحبس أو التعذيب أو التشريد أو ما شابه من الضرر، وكان يجد في قبال ذلك نصرة للدين تستوجب التضحية منه، جاز له، بل استحب له أن يضحي ويعرض نفسه للضرر، ولا ضير عليه في ذلك، ونقول: لا ضير، ولا نقول: يجب، فتأمل. قال في التنقيح: "وإذا كانت المفسدة المترتبة على فعل التقيه أشد وأعظم من المفسدة المرتبة على تركها، أو كانت المصلحة في ترك التقية أعظم من المصلحة المترتبة على فعلها، كما إذا علم بأنه إن عمل بالتقية ترتب عليه اضمحلال الحق، واندراس الدين الحنيف، وظهور الباطل، وترويج الجبت والطاغوت، وإذا ترك التقية ترتب عليه قتله فقط، أو قتله مع جماعة آخرين، ولا اشكال حينئذ في أن الواجب ترك العمل بالتقية، وتوطين النفس للقتل، لان المفسدة الناشئة عن التقية أعظم وأشد من مفسدة قتله .. ولعله من هنا أقدم الحسين عليه السلام وأصحابه رضوان الله عليهم على قتال يزيد بن معاوية عليهما اللعنة وعرضوا أنفسهم للشهادة ، وتركوا التقية عن يزيد لعنه الله وكذا بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام بل بعض علمائنا الابرار قدس الله أرواحهم وجزاهم عن الاسلام خيرا كالشهيدين وغيرهما ". (بحث الطهارة لآية الله الخوئي ج 4 ص 257). ولا أولوية على المكلف في العمل بالتقية مطلقا، بل في ذلك نظر كما يقول العلامة المجلسي قدس سره، ويدل عليه ما وقع من ميثم التمار (رضوان الله عليه) إذ أبى البراءة من الأمير (عليه السلام ) في القصة المشهورة، وإن كان الدليل قائما على نهيه من البراءة من قبل الأمير صلوات الله عليه، لكن النهي ليس خاصا ويستفاد منه العموم. وفي رواية الرجلين الكوفيين التي مضى الكلام فيها مزيد استفادة، فإن الإمام (عليه السلام) عبر عن الرجل المتبرئ بالفقيه في دينه، هذا مع ورود النهي عن البراءة في النص إذ قال عليه السلام: "أما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرؤوا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة". (نهج البلاغة: 57). فكيف يكون فقيها وقد ارتكب محرما منهيا عنه بإبداء البراءة حيث ورد أنه قد تبرأ فأطلق سراحه؟ الجواب هو أن المنع عن البراءة لم يكن دائميا بل كان هذا التوجيه منه (سلام الله عليه) لأهل عصره ملاحظة لأوضاعهم وظروفهم حيث كانت المصلحة الإسلامية في عدم التبرؤ مهما حصل ووقع حتى تتوكد أركان التشيع بعد رحيل رمزه واستشهاده، فإن رحيل القائد يوجب في معظم الأحيان تخلخل القاعدة المؤمنة به فينبغي حينئذ لها ما يدعمها ويحفظ كينونتها، والإصرار على الموالاة وعدم التبرؤ هو ملاك واضح لذلك الحفظ. أما تعبير الباقر (عليه السلام) عن الرجل بالفقاهة إنما كان لكونه في موقفه ذاك مصيبا تمام الإصابة في اجتهاده الشرعي، عالما بجواز لجوئه إلى التقية لحفظ نفسه ولم يكن في تركها ضرر على المصلحة الدينية، أو خدش لكرامة ومقام الإمامة، بينما كان الرجل الآخر خاطئا في اجتهاده ولكنه على كل حال مأجور حسن العاقبة متنعم في الآخرة. والاستفادة هي في أن التقية لا تكون في كل زمان ومكان، وإلا لكان إبداء البراءة من أمير المؤمنين (عليه السلام) جائزا في كل زمان ومكان والعياذ بالله، وليس ذلك كذلك، بل للقاعدة شواذ واستثناءات كما أوضحنا، فإن اللجوء إلى التقية مرهون بملاحظة الأوضاع العصرية والمكانية حتى يتحقق الموضوع المؤدي إلى حملها عليه حكما. وسنفصل عما قليل في تطبيق هذا الكلي على جزئي زماننا، إن جاز هذا التعبير في المنطق. ونقول خلاصة لما سبق أن على المؤمن أن يقيم الوضع والموقف بنفسه، فإذا رأى أن الكفة تميل لصالح اللجوء إلى رخصة التقية وأن ذلك اللجوء لن يؤثر سلبا على المصلحة الإسلامية جاز له ذلك، بل قد يجب في أحيان. وإذا رأى أن الكفة تميل إلى ترك التقية وأن ذلك أكثر مواءمة للمصلحة الإسلامية جاز له ذلك، بل قد يستحب في أحيان. والاختيار موكول للمؤمن واجتهاده، ويدل عليه ما عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (الباقر) أنه قال: "التقية في كل ضرورة ، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به ". (الكافي ج 2 ص 219). وهي دالة بوضوح على أن التقية منوطة بتقييم المكلف لموضوعه وهو أعلم بنفسه كما قال تعالى: "إن الإنسان على نفسه بصيرة". (القيامة: 14). وعلى هذا لا يجوز لأحد أن يتدخل في تشخيص المكلف لموضوع التقية بالنسبة إلى نفسه إذا لم يجد ضرورة في اللجوء إليها، إلا أن يخطئه من جهة عدم سلامة اجتهاده في تطبيق المسألة، إذ لا تقليد في الموضوعات إلا إذا حكم الفقيه فيها على قول القائلين بولاية الفقيه . والذي يبدو جليا في زماننا هذا أن لا موضوع للتقية إلا ما خرج بالدليل في أمكنة وظروف معينة، وهي نادرة. ونقول أنه لا موضوع على الأغلب باعتبار ما نلمسه وما نشاهده من انفتاح العالم على أهله وشعوبه، وتغير الظروف السياسية بما يتيح للمؤمن أن يعمل طبق مذهبه، وأن يقيم شعائره، وأن يعبر عن عقيدته وآرائه. وهذا الحال هو في الجملة، فإذا وقع ضرر على أحد من المؤمنين فالكلام هنا هو في جهتين: الأولى؛ هل أن هذا الضرر مما يمكن التسالم على أنه عام أم أنه ضرر خاص؟ فإذا كان خاصا فالموضوع - بالتبع - خاص وليس عاما وحينها يجب أن لا ينجر الجميع للعمل بالتقية لانتفاء الموضوع العام. . والثانية؛ هل أن هذا الضرر كانت تقابله مصلحة دينية أكثر رجحانا، فإن كان ذلك سليما فالصواب هو استحباب تحمل ذلك الضرر والتضحية بالنفس في سبيل استقامة دين الله تعالى أو تبليغه، كمآ سبق بيانه قال في القواعد اقرأ الفقهية: "وهذا الذي قلنا من استحباب التقية أو وجوبها كان في الأزمنة السابقة في أيام سلاطين الجور الذي ربما كان تركها ينجر إلى قتل الإمام عليه السلام، أو إلى قتل جماعة من المؤمنين، وأما في هذه الأزمنة - بحمد الله - حيث لا محذور في العمل بما هو الحق ومقتضى مذهبه في العبادات والمعاملات، فلا يوجد موضوع للتقية ". (القواعد الفقهية لآية الله البجنوردي ج 5 ص 54). هذا والمؤمل في المؤمن أن يسعى لتجنب التقية بخلق الظروف التي تسمح له بممارسة شعائره التعبدية والصدع بالحق كما أمر الله تعالى، فإن ذلك يدخل في إطار الاستقامة المطلوبة شرعا. بمعنى أن على المؤمن أن يسأل من الله تعالى أن لا يلجأ إلى التقية يوما ما، لأنها استثناء وليست أصلا، ولذا فإننا نقرأ في دعاء الغيبة: "يا رب .. واجعلنا ممن لا حاجة به إلى التقية من خلقك". (مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص 415 وبحار الأنوار ج 53 ص 190 وسائر كتب الأدعية). وهذا الدعاء مروي عن إمامنا الحجة المنتظر (أرواحنا فداه) عبر نائبه الأول عثمان بن سعيد الأسدي العمري سلام الله عليه. وهو تعليم لنا بضرورة السعي لترك التقية وعدم الاحتياج إليها، فإن ذلك قد يمهد في قيام القائم صلوات الله عليه وعجل الله فرجه، وإن كان يرد على ذلك بورود رواية مضمونها أنه كلما اقترب هذا الأمر كان الاحتياج إلى التقية أشد، وهي محل بحث عندي ليس هنا محله. · التقية لا تعني ترك التبليغ: وما يتوهمه بعض الناس من أن التقية معناها ترك التبليغ الديني لئلا تقع مشاحنة مع الطرف الآخر الذي يرفض بعض الخصوصيات العقائدية للتشيع كالبراءة من أعداء الله هو خطأ كبير، فمجرد المشاحنة لا يحقق موضوعا كافيا للتقية في هذا الزمان بناء على مقتضى الأدلة، إذ لا ضرر، إلا إذا قلنا بأنها - أي المشاحنة - تستلزم التنفير فيكون البحث فيها في جهة أخرى، غير أن ذلك إذا وزن في قبال أمرين؛ ارتفع: أولهما، أن سمة الأطراف العقيدية المتقابلة في زماننا هي المشاحنة حتى أصبح ذلك من المعتاد في ساحات المناظرة والجدال، فكل طرف يتحدث بطلاقة وصراحة عما يعتقده في الآخر وهو عالم بأن كلامه قد يستوجب التنفير بضميمة ما في العقائد ذاتها من التناقض والتعاكس، وقد أصبح ذلك سمة اعتيادية، وعليه فلا شذوذ في ذلك حتى نقبحه، بل قد نقول بأن التنفيز منتف بفعل الاعتياد، أو بلحاظ أنه يأتي كرد فعل على ما بدأه المخالف، وقد قال تعالى: "ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه"، وأن ذلك هو مقتضى التوازن في مجابهة الخصم. وثانيهما، أن التصريح بالبراءة في ظل قوة الأدلة يحقق ما قررناه آنفا في بعض المحاضرات من أنه يمثل صعقة الاستيقاظ - إن جاز التعبير - التي يقوم بها الأطباء كهربائيا لإنقاذ المريض الذي يدنو من الموت، فرغم أن في تلك الصعقة أضرار لكنها تهون في قبال الأهم، وهو إنقاذ المريض. وهكذا فإن إعلان البراءة من أعداء الله تعالى وإيراد الأدلة على كفرهم وظلمهم لأهل بيت النبوة (عليهم الصلاة والسلام) رغم أنه يوجع ابتداء كتلك الصعقة، لكنه ضمن قاعدة (الأهم والمهم) أولى نتيجة. يجب على المؤمنين أن لا يفكروا يوما ما في التخلي عن فضح وتعرية أعداء أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) بحجة أن ذلك يثير سخطا عند الطرف المخدوع بهؤلاء، لأن ذلك التخلي عدا عن كونه مخالفة شرعية خطيرة إذ يجب إظهار البراءة من أعداء الله على ما أفتى به فقهاؤنا؛ فإنه يعني عمليا المشاركة في تغييب أبناء العامة عن معرفة الحقيقة وعرقلة وصولهم إلى الحق وصدهم عن الإيمان بولاية أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم. ولا يخفى أنه لا إيمان بالولاية بلا إيمان بالبراءة، ولن يركب أحد سفينة النجاة دون أن يتخلص من طحالب رجال السقيفة المتراكمة منذ مئات الأعوام. وليس مهما أن نتفق على أسلوب الفضح والتعرية فإن لكل أسلوبه وذوقه على أن تكون كل تلك الأساليب تحت ضابطة شرعية، ولكن المهم هو المبدأ الذي ينبغي عدم التخلي عنه مطلقا خاصة في ظل عدم وجود ما يبرر ذلك تقية. وإن من أشد ما ينبغي أن يستهجن في هذا العصر قيام البعض بتعطيل هذا المبدأ حتى لا يقع في إحراجات أمام الطرف المخدوع، في حين أنه لم يكترث بوقوعه في إحراجات أمام مولاتنا الزهراء (صلوات الله عليها) وسائر الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم !! إن نزع أستار الباطل وكشف قتلة أهل البيت على حقيقتهم المروعة ليس محرجا بل مورد افتخار واعتزاز، ومخطئ من يقول أنه كما أننا لا نرضى بأن يتعرضوا لأئمتنا فكذلك يجب أن لا نتعرض لأئمتهم، لأن هذه المقارنة مجحفة وغير عادلة لعدة أسباب من أهمها أننا عندما نوجه نقدنا للخلفاء ومن تلاهم فإن ذلك مبني على حقائق تاريخية موضوعية وليس هو من نسج الخيال، وحين نقول أن فلانا مثلا ظالم فإن لنا الأدلة الكافية على ذلك، وكل منصف ليس أمامه من خيار سوى قبول هذه الأدلة وبالتالي قبول توجيه النقد بعد ثبوت انتفاء قداسة هذه الشخصية، أما الحال مع آل محمد (صلوات الله عليهم) فمختلف جذرا وأساسا، في الصغرى والكبرى، ففضلا عن أن الأمة قد أجمعت على قداستهم وعدم جواز التعرض لهم إطلاقا؛ فإنه ليس هناك في طول التاريخ الإسلامي وعرضه ما يمكن أن يعتبر دليلا يقدح في ذواتهم المقدسة أو يطعن في سيرتهم الطاهرة، فلا يمكن للمنصف والحال هذه أن يقبل بمسهم أو التجرؤ عليهم لأن كل تجرؤ يكون مبنيا على غير الحقيقة وعلى التجني الفاحش، وهذا مرفوض شرعا قبيح عقلا. أما أن تستمر حالة إخفاء وكتمان الحقائق هذه، فذلك مما نأباه ولا نريده لأحد من المؤمنين ، فليس هو بتقية، بل هو الانهزام والانكسار والتصاغر بعينه، وقد اشتبه على بعض المؤمنين أمر التقية حتى ظنّوه ذلك، فوجب علينا التنبيه، سائلين المولى أن يزيدهم وعيا، وأن يرفع غشاوة الخديعة عن أعين بقية المسلمين من البكرية وغيرهم حتى يتبعوا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، ويتبرؤوا من أعدائهم عليهم اللعنة والعذاب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق